دردشة صباية وشباب سوريااليوم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

المواضيع الأخيرة
» شركات نقل العفش
من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Emptyالجمعة يناير 12, 2024 2:45 am من طرف شركة الزهور

» شركات نقل الاثاث فى المعراج 01009665850
من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Emptyالخميس مارس 02, 2023 5:04 am من طرف شركة الزهور

» شركات نقل الاثاث بالظاهر 01009665850
من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Emptyالخميس مارس 02, 2023 4:56 am من طرف شركة الزهور

» شركات نقل الاثاث بحى الاندلس 01090216656
من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Emptyالخميس مارس 02, 2023 4:46 am من طرف شركة الزهور

» شركة نقل اثاث بطيبة جاردنز و فلورنتا 01009665850
من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Emptyالخميس مارس 02, 2023 2:40 am من طرف شركة الزهور

» شركات نقل الاثاث بنيو جيزة 01009665850
من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Emptyالخميس مارس 02, 2023 2:36 am من طرف شركة الزهور

» شركات نقل الاثاث بالكردى 01090216656
من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Emptyالخميس مارس 02, 2023 2:23 am من طرف شركة الزهور

» شركات نقل الاثاث بطلخا 01009665850
من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Emptyالخميس مارس 02, 2023 2:18 am من طرف شركة الزهور

» شركات نقل الاثاث بمنشية ناصر 01090216656
من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Emptyالخميس مارس 02, 2023 2:14 am من طرف شركة الزهور

التبادل الاعلاني
احداث منتدى مجاني

من روائع الأدب العالمي ( البؤساء )

اذهب الى الأسفل

من روائع الأدب العالمي ( البؤساء ) Empty من روائع الأدب العالمي ( البؤساء )

مُساهمة  ماستر الخميس نوفمبر 10, 2011 12:54 pm

اسم الكتاب : رواية البؤساء
المؤلف : فيكتور هيجو
الناشر : دار الحافظ للكتاب
عدد الصفحات : 160 صفحة
السعر : 100 ل.س
حجم الكتاب : 17 × 24

من هذه الرواية

الفصل الأول
جان فالجان
* الغريب المشبوه
أشرف على مدينة ديني رجل يضرب في الأرض على قدميه فدخلها وقد مال ميزان النهار واكتهل اليوم الأول من شهر أكتوبر سنة 1815و كان قد ركب نعليه عامة يومه فما أدركها حتى أخذ منه الجهد وأعياه النصب وأمله طول الشقة وحتى ملكه الجوع ونال منه الظمأ وجمع في منظره بين تعب الحياة وتعب السفر فكانت النظرة إليه تدعو إلى الريبة فيه. لذلك ما نظره أحد من سكان تلك المدينة إلا ومرت به خلجة شك في أمره.
وكان ربعة في الرجال بادناً شديد الحول يضرب لونه إلى السمرة طويل شعر اللحية قصير شعر الرأس لقرب عهدها بالمقراض، نيفت أعوامه على الأربعين، عليه أسمال بالية وبيده عصا وقد احتقب خرجاً ملأه بحاجه ولباناته.
دخلها وهو أشعث أغبر، وقد انتشرت على أديم وجهه طبقة نسجتها يد السفر من خيوط الشمس وطلتها بطلاء من العرق والغبار فسار فيها وقد أنكره كل من رآه ـ وكذلك ينكر ابن السبيل ـ وأخذ سمته إلى دار المشيخة، فمضى قدماً في إحدى سبلها، حتى إذا قطعها عطف يسرة وعرج على تلك الدار ولبث فيها بعض ساعة، وخرج فمر بجندي فحياه فصعر الجندي خده وتثاقل في رد تحيته، فمضى الرجل في طريقه ونظر الجندي يترسم مواقع أقدامه، حتى غاب عنه سواده.
ولعله كان قادماً من الجنوب ـ فلقد طلع على تلك المدينة من ذلك السبيل الذي ركبه نابليون الأول قافلاً من كان إلى باريس منذ سبعة أهلة ـ وكأنه منذ أصبح ما تبلغ فما هو إلا أن أفلت من دار المشيخة حتى تيمم المنزل، فلما دلف إلى حيث يطبخ ألفي رب النزل هناك، فسأله رب النزل وقد أحس بقدومه وأن لم يمد إليه بصره: ما سؤل الطارق؟ فقال الرجل: أكلة ونومة، قال: لك سؤلك ثم ألتفت إليه فما كاد يأخذه

* البائس الحزين
نظره حتى أخذه الشك فيه فعطف قائلاً: أو تصل يدك إلى وفاء حق ما تطلب؟ فضرب الرجل بيده إلى جيبه وأخرج كيساً فهزه حتى أسمعه وسوسة ما بداخله، وجلس إلى النار يصطليها ـ وقد كان مقروراً وولى ظهره الباب. وجعل رب النزل يخالسه النظر في الجيئة والذهوب، والرجل غافل عنه ينكت الأرض بعود في يده حتى كاد يأتي عليه الجوع فصاح بصاحبه: أما آن أن آكل وليس هنا من هو أحوج مني إلى الطعام وما لي بد من تناول ما أمسك به النفس؟ فقال له رب النزل: إني ليحزنني أن تنصرف عني وأنت طاو، فلقد سبقك إلى شراء ما ترى قوم نزلوا بنا منذ اليوم، وما منهم إلا من هو أحرص منك على الطعام فقال الرجل: لن أبرح الأرض حتى أصيب ما أتبلغ به، فلقد سايرت الشمس من شروقها إلى غروبها وقضيت يومي طاوياً وما بلغت هذا المكان حتى أدمي السير قدمي، ومن العجز أن أبتغي عنه حولاً. فقال له صاحبه وهو يحاوره: لقد بالغت في محاسنتك كي لا أجابهك بالرد، وكرهت أن أجمع عليك بين مرارة الجوع وغضاضة المنع، فأبيت إلا الإصرار فأغرب عني أيها الرجل ولا تلحف في السؤال فأنا أعلم بك منك ولو شئت لزدتك فقد زهدني فيك ما أقرأ عنك في تلك الرقعة التي تراها بيدي وصاحبها لا تغيب عنه وساوس صدرك وأنك لقريب العهد به، ذلك رب الدار التي عرجت عليها حين أحلتك المدينة فأذهب غير معقب وحسبك ما سمعت يا جان فالجان فعالج الرجل الكلام فاستعصى عليه لفرط الدهش، فأهوى بيده إلى متاعه فاحتمله وخرج يتعثر في ذيل الخيبة، وركب الطريق الأكبر ومضى على وجهه يقتاده القضاء والقدر.
ولو أنه نظر وراءه لرأى بباب النزل قوماً تكاد تنهبه أبصارهم، وما منهم ألا من قاف أثره بنظرة من الشك، ولكن الرجل لم يلتفت فقلما يسكن البائس الحزين إلى تلك اللفتة التي تريه النحس على عقبيه، فواصل السير وقد أنساه طريف الحزن تالد التعب، ولكنه ما لبث أن تنبه فيه هاجع الجوع، فأشفق أن يدهمه الظلام قبل أن يبلغ مكاناً يعصمه من القرة ويذود عنه الطوى، فما زال يتيامن ويتياسر حتى لمح ضوءاً فقصده فإذا هو على باب نزل حقير فوقف أمامه وهو يكبره، الجوع يدفعه والخوف يمنعه، حتى صحت عزيمته على الولوج فلما صار بصحن الدار وبصر به ربها، صاح:من الطارق؟ فقال: الرجل: عابر يطلب قوتاً وكناً، ودخل حيث يسمع الصوت فوجد قوماً جلوساً ينتظرون نضج الطعام، وشم ريح القتار فكادت تثبت أحشاؤه إلى القدر، فقال له صاحبه:دونك النار فاصطل ريثما ينضج الطعام. فانتحى ناحيتها وجلس إليها ومد أمامها قدمين أدماهما التعب.
* العودة للجن أرحم ولكن؟
وما كاد يحتويه هذا المكان حتى أحتوى الشك من فيه فقد نظروا رجلاً ترتسم على وجهه آلام الحياة مطرقاً حزيناً إذا أمررت عليه النظر إمراراً رأيت فيه سهولة السطيع، وإذا أدمنته فيه تبينت فيه الجفاء.
وكان بين أولئك الجلوس رجل قد بصر به ضحوة النهار وقد ركب الطريق بين براسكاس راسكابلون فرابه أمره حين دنا منه وهو فارس فطلب إليه ذلك البائس أن يردفه لينفس عنه كرب السير فكان جوابه أن أستحث جواده هرباً من شر تلك الطلعة وقد أراد الله أن يكون ذلك الفارس بين أولئك القوم الذين كانوا بباب النزل الأول وقوفاً يشيعون ذلك الطريد بنظرات تقعد همة الفوتوغرافيا عن تصوير ما فيها من الاستخفاف والازدراء وبين أولئك الجلوس الذين رابهم أمره في النزل الثاني، فأومأ إلى رب النزل فلما دنا منه همس في أذنه بكلمات ملأته نفوراً من ذلك القادم فانفتل إليه، وقال له: ما كان أخلقك بالتحول عن هذا المكان فأجابه الرجل: أو قد علمت بحادثة ذلك النزل؟ قال: نعم وسنشفعها بأختها فاستقبل الرجل الباب ولما صار بالطريق إذا هو بصبية يرجمونه بالمدر وقد تعقبوه منذ هبط المدينة، فخشي أن يصيبه عنت منهم أن هو تغافل عنهم، فأشار إليهم بعصاه يوهمهم بالأذى، فنفروا عنه نفور القطا، فانطلق حتى إذا صار أمام السجن خطر له أن يأوي إليه ليلته وقال لن أجمع على نفسي بين الجوع والسهاد ولقد أراني إلى الراحة أجوع من إلى الطعام وهذا جو خليق أن يهلكني قرّه ولن أعدم أن أجد في هذا السجن مكاناً يعصمني منه.
* وجار الكلب يتثاقل عن الإضاقة..
فلما تمكن منه هذا الخاطر طرق الباب فقال السجان:من الطارق؟ قال:غريب لا مندوحة له عن الالتجاء إلى السجن قال: ومتى كان السجن داراً للضيافة؟ فإن كنت أمسيت وقد أعياك الأمر فهذا باب اقتراف الجرائم لا يزال مفتوحاً وهو لا يلبث أن ولجت فيه أن يقتادك إلى هنا فانصرف الرجل مخذولاً وليس وراء ما به من البؤس غاية، وتغلغل في المدينة فمر في طريق ضيق على عطفيه حديقتان عليهما سياج وفي وسط إحداهما دار صغيرة تعلو الأرض بطبقة، بإحدى نوافذها سراج يضيء الليل فما هو إلا أن رآه حتى أسرع إليه فلما بلغه نظر من تلك النافذة فإذا رب الدار بين زوجه وولده وهو أهنأ ما يكون بالا، فقال أستضيفهم فلعلي أن أصادف منهم جانبا رحيماً، ثم خفض من جزعه ونقر بإصبعه على زجاج النافذة نقرة الجبان، فلم يسر إليهم الصوت، فخلع عن منكبيه ردا الفزع ونقر نقرة مطمئنة، فقالت المرأة لزوجها: كأني أسمع نقراً على زجاج النافذة فتسمعا جميعاً فسرى إليهما الصوت فقام الرجل إلى السراج فحمله واستقبل الباب ففتحه فأخذ بصره رجلاً تذعر منه الأبالسة، فقال رب الدار: من الذي أرى؟ قال: غريب يستضيفك ولك الحكم في الأجر، فقال له وقد دب الشك فيه:إن كنت ذا مال كما تزعم فهذه الفنادق فما منعك أن تغشاها، قال: غشيتها فلم أجد فيها مكاناً. فقال له وقد تملكه الشك: أن ما تقول لشبيه بالباطل وليس هذا بإبان المواسم، وأني لأرى رجلاً غير ميمون الطلعة ولقد راعني منك ما يروع المرء من قاتله وكأني أسمع صوتاً يقطر منه الدم وأكبر ظني أنك ذلك الرجل فقال له: لا تعجل في الحكم على ما ليس لك به علم، فما أنا إلا ابن السبيل قطعت في يومي اثنى عشر فرسخاً وقد أجهدني الكد والنصب، وهدني التعب وأخذ مني الطوى، فهل لك في أن تسعفني بكسرة من الزاد ولك أجر المحسنين، فإن لم تفعل، فشربة من الماء؟ فقال: بل شربة من حميم وأغلق في وجهه الباب، فوقف الرجل وقد كاد يأتي عليه اليأس لولا أن بصر في ضوء الشفق بشيء شبيه بالكوخ في وسط الحديقة المجاورة لذلك البيت فقال: ما لهذا الكوخ بد من ساكن ولكني آتية فلعلي أجده خالياً فأفنى فيه دولة الظلام وأستجن فيه من ذلك البلاء المتساقط فقصده فإذا هو وجار لكلب وقد غاب عنه صاحبه، فانبطح فيه الرجل على وجهه واستحالت عليه الحركة لضيق المكان، وكان متاعه لا يزال على ظهره ولم تقو يده على إزالته لفرط ما ناله من الأين والنصب، فلبث قطعاً من الليل وليس به حراك حتى إذا أمله حمل ما على ظهره عمد إلى نزعة فأخذ يعالجه بيده، وأنه ليفعل ذلك إذ فاجأه رب الوجار، فتسلل الرجل من مكانه وغادره لذلك القادم وأشفق أن يثير غضبه بتثاقله عن الخروج فينشب فيه أنيابه وهو في ذلك المضيق لا يستطيع دفعاً عن نفسه، وخرج من البستان وهو أشد ما يكون جزعاً من الحياة شريداً يطويه البرد وينشره الطوى، تعذر عليه حتى الوصول إلى السجون وعزت عليه حتى مراقد الكلاب.
* افتراس الصخر أم التوجه لباب كريم..
فلما صار في الطريق قال: لقد قصدت الفنادق فذادوني عنها، فالتجأت إلى السجن فكذاك، فاستضفت الناس فكذاك، ولقد زهدت في حتى الكلاب، فليس لي ألا التحول عن هذه المدينة.
ثم سار مقنع الرأس كاسف البال وأستقبل الفضاء وكان ليله بهيماً ضرير النجم شديد القر ساقط النواحي متهم الصباح فأنطلق حتى إذا بلغ مزرعة حديثة العهد بالحصد رفع رأسه ومد بصره فإذا ظلمات يقصر فيها قاب العين، وقد زاد في ظلام الليل ما تلبد في سمائه من تلك السحب الكثيفة فكانت السماء أشد ظلمة من الأرض. فانقلب الرجل على عقبيه وأم المدينة وكانت ذات سور وأبواب فرأى الأبواب وقد أغلقت فحاول التسور فأعياه الأمر، فما زال يطوف بالسور حتى عثر على ثغرة فانحدر منها إلى المدينة، ومضى على وجهه تترامى به الطرقات وتتقاذف به الأزقة حتى مر ببيعة فوجد على بابها مقعداً من الحجر فسقط عليه لا يعي من فرط التعب وأضطجع عليه. وما كاد يحتويه ذلك المضجع حتى خرجت من تلك البيعة امرأة صالحة فقالت له وقد رأته ممداً كالجذع: ما خطبك أيها النائم؟ فقال لها: وهل يدعو ما أنا فيه إلى السؤال ألا ترين أني أنام؟ فقالت له وقد أخذتها رأفة عليه: أتفترش الصخر؟ قال: مر بي تسعة عشر حولاً ولا أفترش غير الأخشاب، وأنا الليلة أفترش الصخور ولولا أنني صفر اليدين لأكتريت لي مكاناً. على أنني طرقت الأبواب فلم أظفر بكريم. فقالت: هل أدلك على بيت ما طرقه قبلك طارق وجبه بالرد؟، وأشارت له إلى بيت صغير على كثب منه فأخذ الرجل سمعته إليه.
* * *
* الحذر من الغريب لمشبوه
وكان هذا البيت لعابد بمدينة ديني وقد أفرد له المؤلف في صدر الكتاب باباً قصره على ذكره ومناقبه، ومبلغ ما فيه أن الرجل مسماح كريم عفيف الأزار طاهر المهد سريرته في بياض صحيفته فقال للخير مناع للشر، وكان يقطن هذا البيت مع أخت له على خلق كريم وهي امرأة نصف لا عجوز شمطاء ولا فتاة هيفاء وكانت لهما خادم من ذوات الأسنان تعد من العمر ستين عاماً.
وبينما كان الرجل آخذاً طريقه إلى ذ لك البيت كانت الخادم تحدث مولاتها:
لقد هبط المدينة رجل مريب ما رآه أحد إلا وذعر من رؤيته وقد مشى بحديثه الكبير والصغير فورد الأندية وولج الأخبية وأجمع الناس على وجوب التحرز منه حين نظروا في وجهه سيما الفتك والشرور فلا ينجلى هذا الليل إلا عن حادث جلل وها هو يطوف تحت رأيه الليل في الأزقة والطرقات حتى إذا عن له صيداً أو آنس من أحد غرة وثب عليه فسلبه نفسه ومتاعه ولا آمن ونحن في هذا البيت أن يصول علينا الذئب صولته، ولا أظن تهاون العسس في الأمور إلى هذا الحد إلا لما أمسكه حاكم البلد في نفسه من الضغينة على رئيس الشرطة، وما وقره رئيس الشرطة في صدره من الموجدة على ذلك الحاكم يحاول كلاهما إلقاء تبعة الحوادث على صاحبه، ولقد وجب على كل من له مسكة من العقل أن يقيم من نفسه حارساً علي نفسه حتى تنحسر فترة الشقاق بينهما وأنا غادية إلى السوق لشراء مزلاج لهذا الباب وداعية أحد النجارين لإصلاح عضادته.
وأنها لتحدثها كذلك إذ دخل سيدها وقد ألم بطرف من الحديث، فنظر إليها نظرة المستطلع، وسألها سؤال المستخبر، لقد وعيت طرفاً من حديثك فما عسى أن تكون تلك النازلة التي توشك أن تحل بنا؟ فاندفعت الخادم تحدث مولاها بما تعلمه من أمر ذلك الرجل، وكلما آنست منه أرتياحاً إلى حديثها تغلغلت في الإغراق واسترسلت في المغالات وقالت: ولقد عود مولاي طراقه على الدخول في هذا البيت قبل الاستئذان، وقد علموا منه ذلك فهم يغشونه بالليل والنهار ولا يكلفهم ذلك غير دفع هذا الباب!. وما كادت تنتهي من مقالتها حتى سمعوا طرقاً فقال العابد: أتيت أهلاً أيها الطارق فاندفع الباب بعنف ولاح رجل على عتبة الدار وأخذ يخطو إلى صحنها بقدم مطمئنة وصدر لا يبرحه القلب. وأن عهدنا بهذا القادم لقريب، فما هو ألا أن تراءى حتى كادت تنقطع نياط قلب الخادم من الهلع، فهمت بالصياح فخانها الصوت

* العابد الكريم الواسع الصدر..
فلبثت فاغرة الفم غائبة الرشد. أما الأخت فقد حفز الخوف أحشاءها حفزاً فنظرت إلى أخيها فإذا هو مثلوج الصدر جليد القلب رابط الجأش طلق المحيا، فثاب إليها رشدها وعاودها السكون ومرت كأن لم تكن تلك الجازعة الهلوع، وأما ذلك الرجل، فقد وقف في صحن الدار وأنشأ يقول:
إنني مجرم طويت في الجن رداء شبابي، وسلخت فيه مائة وثمانين شهراً حتى استوفيت عمر العقاب، ولم تشرق علي شمس الحرية غلا منذ أيام أربعة، فهبطت تلك المدينة وقد شمر النهار، فقصدت الفنادق، فحالت بيني وبينها تلك الورقة الصفراء التي يحملها حديث العهد بمغادرة السجون، فطرقت الأبواب فلم أصادف رجلاً كريماً ولا قلباً رحيماً. فقلت آوي إلى السجن، فأنا أقرب الناس عهداً به فنهرني السجان، فدلفت إلى وجار كلب فطاردني حتى طردني، فقلت أنطلق إلى الفضاء فأنام تحت حراسة النجوم، فتقنعت بالسحاب وكأنها عانت النظر إلى تلك الطلعة المنحوسة. وأشفقت من سقوط المطر، فعدت معقباً إلى المدينة، ولم أصب من رحمة في الأرض ولا في السماء، فحالت بيني وبينها الأبواب حين بلغتها، فما زلت أطوف بالسور حتى ظفرت بصدع فيه وانحدرت منه إلى المدينة وهمت على وجهي في الطرقات حتى مررت ببيعة فإذا على بابها مقعد من الحجر فأنطرحت عليه، وإني لكذلك إذ مرت بي امرأة من الصالحات فنفضت إليها جملة الحال، فأرشدتني إلى هذه الدار، وها أنذا قد بلغتها. ولقد عودني الشقاء على أن أجتزىء بالشربة وأكتفي بالكسرة، فهل أنا مصيب عندكم ما أمسك به النفس؟ فلقد ظللت يومي طاوياً وقطعت اثنى عشر فرسخاً وأنا راكب هذين النعلين، فإن فعلتم ـ وما أظنكم تفعلون ـ فلكم ما تشاؤون من الأجر، فإني على الدفع قدير!.
فنظر العابد إلى الخادم، وقال لها هيئي له مكاناً على المائدة، ثم أخذ يحد البصر على ذلك الرجل، كمن يحاول أن يستشف ما في قرارة نفسه، فمضى الرجل قدماً حتى اقترب من السراج وضرب بيده إلى جيبه فانتزع منه تلك الورقة الصفراء إجازة الإطلاق وكأنه لم يصدق أذنه لقرب عهدها بسماع غير الذي سمعت، فالتفت إلى العابد، وقال له: دونك الورقة التي ما صحبتني إلى مكان إلا سبقني النحس إليه وإني لأتلو عليك ما فيها فقد تعلمت القراءة في مدرسة السجن.
* استضافة بلا أجر..
وأخذ يتلوها:
إن جان فالجان مجرم أطلق سراحه بعد أن لبث في السجن تسعة عشر حولاً، قضى خمسة منها قصاصاً على السرقة، وقطع الباقي جزاء معالجته الفرار من السجن مراراً وأنه لفتاك جسور.
ثم قال:
لذلك تراني ما حللت في مكان إلا وأنكرني من فيه وأوجس خيفة مني فيا ليت شعري أكذلك تكون معي أم أنت من المحسنين؟.
فنظر العابد إلى الخادم وقال لها: مهدي له سريراً وخاطب الرجل قائلاً: نزلت رحباً فأجلس إلى هذه النار وأصطل وما هي إلا لحظة حتى يحضر الطعام فإذا فرغت من تناوله أخذت مضجعك في السرير. فصدق الرجل في هذه المرة أذنيه وأشرقت أسارير وجهه وسرى عنه ما كان فيه من الغم، وخرج به فرط السرور إلى الهذيان فجعل يقول: أسرر وحشية وغطاء وما لجنبي عهد بها منذ تسعة عشر حولاً؟ ولقد كان قائماً بنفسي أن لا أرى منك غير الذي رأيت من أصحاب الفنادق، فما بالك تبايع في محاسنتي كأني بعض بني الإنسان ولقد كنت أنهر الساعة كما تنهر الكلاب، فما أرق شمائلك أيها الرجل فتالله لأضاعفن لك الأجر. فيا ترى ما اسم هذا النزل وكم ينبغي أن أدفع؟.
فقال العابد: أن الذي يؤويك لم يكن بنزل كما تزعم، ولكنه بيت ذلك الذي يخاطبك فقال الرجل: لقد خيم الحزن على بصري فلم ألمح إشارتك التي تحملها ولعلك عابد بتلك البيعة القريبة، فلا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً، فأنت حقيق بمؤاساة البؤساء.
ثم رد الرجل ورقته الصفراء إلى جيبه، وألقى على الأرض متاعه وأسند إلى الحائط عصاه وانتحى ناحية النار وجعل يقول: ولا أخالك تكلفني على ذلك أجراً. فأجابه صاحبه وهو يحاوره: لا بل فأحفظ عليك دراهمك فلسنا في حاجة إلى شيء منها.
وكره العابد الخوض معه في مثل هذا الحديث فحول مجراه قائلاً: ولعلك يا سيدي مقرور، فإن ليلتنا باردة الهواء فتمشى السرور في قلب الرجل حينما استأذنت تلك الكلمة على سمعه، وتنزهت روحه من داخل الجسد، وأصابت منه تلك اللفظة (سيدي) موقع الماء من ذي الغلة الصادي.
ولا يزال المصاب في شوقه على ظمأ إلى نهلة من موارد الاحترام، حتى إذا ظفر بها أصبح مبرود الغليل.
وانتقل العابد من حديثه إلى مخاطبة الخادم فقال: أرى سراجنا مريض الفتيلة ضئيل النور. فألمت بقصده وأسرعت إلى مخدع نومه وعادت تحمل شمعدانين من فضة ووضعتهما على المائدة.
فقال الرجل للعابد: لقد أكرمتني الكرامة كلها وحادثتني محادثة القرين وجلست معي على بساط المساواة، على أني لم أكتمك شيئاً عن أمري وعندي أن ما فعلت لكثير على مثلي فقال العابد: لم تكن الدار بداري، ولكنها دار للمسيح يسأله عن ألمه وأنت رحل قد أضر بك الألم ونال منك الجوع والظمأ، فالتجأت إلى تلك الدار وليس في ذلك من فضل، وإنما الفضل لله فهيا إلى المائدة فقد حضر الطعام.
فأخذ الرجل عليها مجلسه وجلس إليه العابد يؤكله ويؤنسه حتى فرغ من أكله وحانت ساعة الانصراف إلى النوم فأخذ بيده على المضجع الذي هيأه له ومر في طريقه على حجرة العابد، فنظر فيها نظرة ألمت بجميع ما بداخلها وحين بلغ به رب الدار مضجعه بعينين نم أنسأناهما عما كان يخفيه في قرارة نفسه من الغدر، فقال له وقد شبك ذراعيه ووقف أمامه وقفة تمشي لها القلوب في الصدور:وما يؤمنك إن لا أنالك بسوء وقد جعلتني بحيث لا يحول بيني وبين الفتك بك حائل؟. فأجابه العابد: ومتى أغني الحذر عن المرء شيئاً وهذا أمر قد فرغ الله منه؟.
ثم غادره وانكفأ إلى مخدعه ولم يلتفت إليه. وبعد أن قضى فيه صلاته تحول عنه إلى البستان وأخذ يطوف في نواحيه وهو يتأمل في نظام الفلك وقدرة الصانع ويطلق الفكر في تلك الأشياء المستسرة في ضمير الدجى.
أما الرجل فما صدق أن يتوارى عنه حتى أهوى إلى السراج فأطفأه وأنطرح على ذلك السرير، وليس به حراك وغط في نومه، وما كاد ينصرم مضجعه فيه ونام ولم تبق في هذه الدار عين لم يأخذ النوم بمعاقد أجفانها. ولما اكتمل الليل أو كاد تيقظ الضيف من نومه!
* * *
* سيرة البائس جان فالجان..
وقد آن أن نسطر للقراء تاريخ هذا الرجل:
كان جان فالجان من أسرة رقيقة الحال تعمل في الأرض ببلدة (بري) وكان أبوه يشذب الشجر، ولم تكن له حرفة سواها فتربى هذا البائس في معهد الجهل، فلم يجلس إلى مؤدب ولا معلم ولم يرتضع بلبان العلوم والمعارف فمر قدماً مجهولاً.
ولما يفع ورث عن أبيه تلك الحرفة وكان طويل التفكير عن غير حزن، وفقد أبويه وهو صغير فماتت أمه محمومة ومات على أثرها أبوه.. هوى من رأس شجرة كان يشذبها فدق عنقه، فاحتضنته أخته وكان لها سبعة من البنين والبنات فلم يزل مكفى المؤونة عندها حتى مات زوجها وليس بين ولدها كاسب وأكبرهم يومئذ في الثامنة من عمره فلم ير جان فالجان بداً من القيام بمعاش أخته وأولادها فجعل يعمل لبطنه وبطونهم ويكدح في طلب الرزق وأجره في أيام موسم حرفته لا يزيد على ثمانية عشر صلدياً، فإذا رزقا له ولأهل بيته. وما زال يكافح الأيام ويناضل البؤس وهو لا تصل يده إلا إلى ما تدعو إليه الحاجة لحفظ الحياة حتى نزلت بهم سنة من السنين حبس شتاؤها الناس عن الخروج في طلب وجوه الرزق، فأملق الرجل إملاقاً شديداً ونزلت به الضائقة وحصره العوز، فأمسوا ذات ليلة ولم يجدوا ما به يتبلغون، فصاحت تلك السبعة الأطفال من ألم الجوع، والتصقت بطونهم بالظهور من فرط الطوى، فكبر الأمر على جان فالجان وغادر الدار وخرج هائماً على وجهه يطلب لهم ما يقتاتون به فمر بخباز قد أغلق حانوته وتهيأ للنوم في مخدع له بداخلها، وكان بابها من زجاج وخلفه حواجز من الحديد ينفذ من أثنائها الساعد فوقف أمامه ونظر من زجاج الباب فإذا رغفان الخبز على قيد ذراع منه، وذكر أمر الغلمة فساقه قائد الاضطرار إلى ارتكاب جريمة السرقة لأجل أن ينتزعهم من مخالب الجوع، فصدع الزجاج بقبضته وأهوى بيده إلى الخبز. وأنه ليحاول اختلاسه إذ أدركه الخباز وقد تنبه من نومه مذعوراً على دوي الصدمة. فتخبل الرجل في أمره وطرح الخبز وأخذ يعدو طلباً للنجاة. وطفق يعدو والخباز على أعقابه حتى لحق به وتعلق بأثوابه وقد خدشه الزجاج في يده وساعده خدوشاً كانت هي الشهود على جريرته، فسيق إلى المحاكمة، وكان كلفا بالصيد في الغابات مدمناً لحمل بارودته، فلما قبضوا عليه، وكان محتقباً لها، شُبه لهم إنه بعض خطفة الصيادين وهم قوم مقتهم الشعب لوهم ديني رسخ في عقيدته يلحقهم بقطاع السبيل، لذلك وفوا هذا البائس قسطه من الأذى وزجوا به في السجن خمس سنين!
* السجين رقم 24601..
وفي اليوم الذي نوى فيه بنصر ديمونتبوت كان جان فالجان يرسف في قيوده وقد سلكوه مع رفقة له في سلسلة طويلة الذرع. ساروا به إلى سجن تولون وقلبه يقطر حزناً على هؤلاء الذين خلفهم بعده لا ترعاهم عين ولا تواسيهم يد ولما وصل إلى السجن ألبسوه ملابس المجرمين ولم يبق له أثر من ماضيه حتى اسمه فقد محته يد الشقاء وأصبح لا يدعى بغير نمرة 24601.
ولا يعلم إلا الله ما الذي حل بعده بتلك الأرملة وأولادها وقد خلفهم على مدرجة من سيول الحوادث يعبث الجوع بأحشائهم ويلعب اليأس بأرواحهم وليس لهم من معين ولا نصير وقد ركب كل منهم رأسه وهام على وجهه من فرط الجوع وتغلغل في ظلمات هذا الوجود ولحق بمن ابتلعتهم تلك الظلمات من البؤساء وتشتتوا في البلاد وجر عليهم الدهر ذيل النسيان فنسيهم. حتى ذلك السجين في سجنه أنساه إياهم كر الغداة ومر العشى، وتتابع البلاء وتوالى الشقاء ولم يجر على لسانه ذكر أخته في أيام بؤسه وما ذكرها غير مرة وقد نقل بعضهم طرفاً من خبرها بعد أن لبث في السجن بضع سنين لا يعلم من أمرها شيئاً، نقل إليه أنه رآها بمدينة باريس تساكن البؤس في دار، ولم يبق لها من أولادها غير واحد وقد انقطعت إلى العمل في إحدى المطابع فنظرها وهي مبكرة إليها وفي يدها ولدها وقد بلغ الرابعة من عمره، وكانت في دار المطبعة مدرسة للأطفال فأدخلت فيها ذلك اليتيم فهي تغدو به كل يوم إليها وتتركه في فناء الدار حتى تحين ساعة الدرس، وكانت تنطلق لمزاولة العمل في المطبعة قبل هذا الحين بساعة، فيلبث ذلك اليتيم في فناء الدار وحيداً فينزوي في ركن من أركانها وينكمش تحت ذيل الانكسار، وطالما شاهده من مر به وهو يقضقض من البرد وفي عينيه كسل الكرى وقد تأخذ حارس الباب الشفقة عليه فيدعوه إلى كنه حتى يفتح باب المدرسة.
* الهروب من السجن إلى السجن..
هذه هي المرة التي سمع فيها بذكر أخته وآلمته ذكرى تلك الأنفس التي كان يحبها ولكنه ما لبث أن عاد إلى حاله من النسيان فقد كان في قلبه جرح لفراقهم وقد اندمل ذلك الجرح لطول العهد واشتغاله بما هو فيه من العذاب والشقاء.
وما كاد يطوي أجل السنة الرابعة حتى وقف عليه الدور في الهروب، فأفلت من السجن وقد أعانه رفاقه على ذلك وكانوا ناجيا لبث يومين هائماً في فضاء تلك الحرية الموهوبة لا يهتدي إلى سبيل.
ولم يستمرىء ذلك البائس لذة الإطلاق والحرية، ومتى كان حراً من بات مقلقل الشخص، مروع العين، منزعج الضمير، طاوي الحشا يفرق من الفيء، ويفزع من لا شيء، يخيفه الليل تسطو غياهبه فتنسج على بصره غشاوة تمنعه عن التحرز من الوقوع فيما عساه أن يكون قد مد له من الشراك، ويزعجه النهار يغرى به الرقباء ويهدي إليه العيون؟ فهو ما مر به طير إلا وفزع، ولا نبحه كلب إلا وجزع، ولا دقت ساعة ولم يدق لها قلبه، ولا لاح شبح ولم يطر له لبه، فإذا أغفى سلت عليه سيوفها الأحلام، وإذا تيقظ راشت إليه سهامها الأوهام.
فما زال يذوب فرقاً بين تلك الهواجس والوساوس حتى سلمه ظلام الليل إلى ظلام السجون غرثان ظمآن لم يصب في يوميه كسرة من الخبز ولا شربة من الماء وقد امتدت أعوام سجنه إلى ثمانية بعد خمسة فدخل السجن وثوب شقائه قشيب جديد أن كان خلقاً رديماً، وقد كان غادره ولم تبق له فيه إلا سنة واحدة وعاد إليه وقد ولدت له تلك السنة ثلاثاً.
وما زال يعالج الهروب فلا يسرح الفرصة إذا عرضت ولا يحجم عن الدور إذا آن، وهو كلما ظن أنه ناج أدركه عثار الجد فرده إلى السجن ومد في أجل بقائه فيه حتى قطع على تلك الحال تسعة عشر حولاً.
وخرج من السجن، وهو كالحجر الصلد، ولا تنال منه النوائب ولا تأخذ منه الآلام، بعد أن كان ذلك الرعديد الهلوع، دخل فيه وهو بادي اليأس جزوع، وخرج منه وهو كظيم.
* * *
وما كان جان فالجان خبيثاً ولكنه فدما جهولاً على أنه ما لبث أن تلقن في مدرسة الدهر العليا دروساً ألحقته بمصاف الحكماء قام بتهذيبه فيها أساتذة الأيام والليالي فعلمه القيد السكون، وعلمته الأغلال الصبر كيف يكون، وأرشده قرع العصا إلى الاستقامة، وسقاه التعب والنصب مرارة الندامة، وانتزعت مضاجع الخشب من جبينه ذلك الطمع، وصهرت حرارة الشمس ما كان في نفسه من الجشع.
فجلس إلى نفسه يحاسبها، وجرد من نفسه حكماً على نفسه، وجعل ينظر إلى ماضيه نظرة الحكيم العاقل، إلى ضلالة الأحمق الجاهل، فعلم أنه أتى أمراً نكراً، وأن ما نابه من القصاص لخليق أن يحل به. وقال في نفسه لقد كانت لي مندوحة عن السرقة فلو أني سألت الناس هذا الخبر لما أبوا على إعطاءه، ولو أني أخذت بالأناة في الأمر لوجدت لي منصرفاً عن ارتكاب هذا العار، أما بالسؤال وإن كان ذلا، وأما بالعمل وأن كان عزيزاً، ولكني تعجلت وكان الأخلق بي أن أعتصم بحبل الصبر.
فمن النزر أن يموت المرء جوعاً على أنه ما خلق إلا ليعيش بين السعادة والشقاء، فإن كان نصيبه في الحياة الألم كان حقيقاً باحتماله وأن عظم، فما كل ألم يكون للموت رائداً.
فلقد عققت نفسي وعققت تلك الأرملة وأولادها وحاولت الفرار من وجه البؤس فواجهت العار، وإني وأن زلت بي القدم فلست بأول الخاطئين، فهذا سبيل كل مضطر عديم.
* حكم العدالة الجامحة..
ولا أزال أرى إنهم نظروا إلى هذا الجرم من غير وجهه فأكبروا الفعل وأفرطوا في العقاب وأخذوا جانب شريعتهم في القصاص ولم يأخذوا جانب المجرم في الرحمة ونظروا في ميزان حكمهم إلى كفة الجزاء ولم ينظروا في كفة العفو عند التوبة.
فلسوف يسألونك عن تلك الحظوظ التي رموا بها في مجرى النحوس، وتلك الأنفس التي ألقوا بها في يد البؤس والشقاء.
وأني لا أرى مقارنة بين الضرر الذي لحق بصاحب الخبز وبين الضرر الذي نزل بي من وراء ذلك الحكم، فإنه وأن لم يأت من طريق الظلم فقد جاء من طريق القسوة والإفراط.
وكان جان فالجان يحاكم نفسه وهو واجد على تلك الهيئة الحاكمة وقد أخرجه حنقه عن حد الرشد، ولقد يكون الحنق جنوناً.
وما ظنك أيها القارىء برجل لم يصب من ذلك المجتمع الإنساني خيراً ولم يأنس منه غير هذا الوجه العبوس الذي كان يكمن في أثناء ذلك العدل الموهوم؟ فهو ما دنا منه دان إلا ليدني إليه أذاه ولامسه إنسان إلا ليمسه منه الضرر، و لا طرقت أذنه بعد أبويه كلمة تستروح منها روائح الرفق ولا وقع عليه نظر تمازحه الرحمة.
فما زالت تهادى به الخطوب وتقاذف به الآلام وهو يتململ على سيال البلوى حتى أيقن أن الحياة حرب وأنه وحده هو المهزوم فيها ، وأن ليس ما يعتد به من السلاح غير ما أمسكه في نفسه من الحقد على العالم بأسره، فهو سلاحه الذي أعده لمناواة الأيام ومنازلة الأنام وكان يشحذه في أيام سجنه ويبالغ في الحرص عليه،وقد رأى أن قوة ذلك السلاح لا تكون إلا في قوة الذكاء، فعمد إلى الدخول في مدرسة في مدرسة السجن وقد تفتق العلوم بعض الأذهان إلى استنباط وسائل الأذى وطرق الانتقام.
وبعد أن فرغ من الحكم على نفسه وعلى العالم بأسره انتقل إلى الحكم على تلك القوة التي حكمت هذه المدة الطويلة وهو يرزح تحت أثقال الهموم يسمو بنفسه آناً إلى السماء ويهبط بها آناً إلى الأرض، فيرى عن يمينه نور اليقين وعن يساره ظلام الشك. ولم يكن ذلك الرجل خبيثاً عند دخوله إلى السجن ولكنه أحسن بسربان الخبث في نفسه حين جلس للحكم على هيئة العالم وشعر بدبيب الكفر في قلبه حين جلس للحكم على تلك القوة السماوية.
وهنا يجب أن يقف بنا التأمل برهة ونتساءل: هل يدخل في باب الإمكان أن يخرج الإنسان من طباعه دفعة واحدة، فيخالف غريزته ويناقض نحيزته، ويتحول عن جبلته وينزع عن سجيته.
* الموقف النفسي في مجريات الظروف القاسية..
وهل لبني البشر سلطان علي النفوس يحولها عن الفطرة التي جبلت عليها، فيرد منها إلى الخيانة ما فطر منها على الطيبة.
وهل يرتبط شقاء الحظوظ وعثار الجدود بفساد النفوس فإذا حمق حظ المرء ولج به عثار جده، خبثت نفسه وساءت فعاله؟
وهل يخضع القلب لسلطان الحوادث خضوع الأعضاء فتدعوه إلى الانكماش أمامها كما يدعو العبء الثقيل الظهور إلى الانحناء، وهل لا يوجد في نفوس البشر نور سماوي لا يذهب بسنائه الشك ولا تطمسه الضلالة، فيبقى ساطعاً في تلك النفوس يلوح منه نور اليقين وتنبعث منه أشعة الهدى؟
تلك أسئلة يدرك الحكماء عندها الحصر ويعجز الباحث في علم الأعضاء عن الإجابة على أخيرها، فلو أنه نظر جان فالجان وهو في سجن تولون، وقد وافت ساعة الراحة من عناء الأشغال، فانتقل من ألم الجسم إلى ألم الفكر لرأي رجلاً يقطر حزناً ويذوب كمداً، يزدهيه الصمت ويغوص به الفكر في بحار من التأمل. أنشبت فيه الشرائع أظفار الظلم فجعل ينظر إلى العالم بعين الحقد والحرد، وأخرجته المدنية عن حد الرحمة فجعل ينظر إلى السماء بعين السخط.
ورأى مريضاً داؤه في النفس لا في الجسد، وقد عز عليه الشفاء. ولوقف عمله عند حد التوجع له، ولصرف نظره عن تلك القروح التي تسكن في هذه النفس المجروحة بسهام الشرائع الجائرة.
ولرأي رأي ذلك الفيلسوف (دانتي) فعمد إلى محو كلمة الأمل التي رسمتها يد القدر على جباه البشر.
الحرية من السجن والأسر بالورقة الصفراء..
ويا ليت شعري أكان يحس ذلك البائس بذلك الوجدان الذي نحس به له، وهل سمت مداركه إلى معرفة كنه ذلك الشقاء الذي أتيح له.
ولما حانت ساعة إطلاقه من القيود ورن في أذنه قولهم له أنك حر منذ اليوم، دبت في نفسه الحياة وشعر بأشعة من الأمل تمحو ظلام ذلك اليأس الذي سكن في نفسه منذ تسعة عشر حولاً، ولكنه ما لبث أن عاودته نزوات الألم حين علم أن إطلاقه سيكون مشفوعاً بتلك الورقة الصفراء، وأنقبض لتلك الجولة من الفكر وجه أمله، وأيقن أنه لا زال في قيد لا تصل يده إلى صدعه، وإن هذا الحكم قد وكل به زبانية من العذاب، فهو في أسر السجون مثله في تلك الحرية الموهوبة لا تزال تكلؤه عين البؤس والشقاء.
وأخذ يفكر بعد ذلك في الثروة التي جمعها أيام محنته مما كان يصيبه من الأجور على عمله في السجن، فظن أنه أصبح رباً لثلاثمائة وثلاثين غرشاً، ونسى أن أيام العطلة من كل أحد وما يلتحق بها من أيام المواسم قد قرضت من رأس ماله ستة وتسعين غرشاً فلم يطرح من حسابه ذلك القدر العظيم، ولا تسل عما حل بنفسه من الجزع حين ألمك بهذه الخسارة وذلك الغبن المبين.
وفي اليوم التالي ليوم تسريحه من السجن مر بمدينة ( كراس) على معمل للزهور به قوم يعملون وكانوا في فقر إلى المعونة لعدم الفسحة في الوقت وطلب سرعة الإنجاز في العمل فعرض على رب المعمل نفسه فألحقه بأولئك العملة.
وكان جان فالجان لا يعرف التعب ولا يأنف الملال فعكف يعمل بخبرة ومهارة وسأل في أثناء ذلك عن الأجر الذي يصيد العامل في يوميه فقالوا له ثلاثون صلدياً، ولكن رب المعمل لم ينقده على عمله غير النصف حين علم أنه يحمل تلك الورقة الصفراء.
فقال جان فالجان في نفسه تلك هي الخطوة الأولى في سبيل هذه الحياة الجديدة، وهذا كله ببركة تلك الورقة الصفراء، فلعنة الله على كل ذي لون أصفر غير الذهب.
النفس وصراع الخير والشر..
فإني وأن كنت قد نجوت من السجن فلا أظن نفسي ناجياً من جور ذلك الحكم.
هذا ما حل به من الغبن في مدينة كراس، ولم ينس القارىء ما أصابه في مدينة ديني.
* * *
ولما كان السحر تيقظ الضيف من نومه، أيقظه لين الفراش ونعومة الملمس، وقطع غرارة ذلك السرير الذي لم يكن له به عهد منذ عشرين حولاً وقد حن جنباه إلى مضاجع الخشب وأشتاق رأسه تلك الوسادة من القش وكان قد هجع ثلثا من الليل فسرى عنه التعب فهب وقد عاوده النشاط وكانت عادته أن لا يهجع إلا قطعاً من الليل فلما تنبه أخذ ينظر يمنة ثم يسرة ثم أهوى رأسه إلى الوسادة وجعل يعالج النوم من جديد.
ومن قضى يومه بين الألم والاضطراب ثم أخذ مضجعه بعد ذلك، كان النوم إلى الحلول بمقلته أسرع منه إلى سواه، ولكنه إذا تيقظ فقلما يجد النوم إلى عينه سبيلاً.
كذلك كان جان فالجان فقد استعصى عليه النوم وأدركه الأرق وانتابته الهواجس والأفكار وجعل ينتقل به سيال الفكر من مكان إلى مكان وقد مرت أمامه تلك الحوادث الغابرة مرور الصور المتحركة، وهو كلما نزلت برأسه فكرة أدركنها على الأثر أختها فلا تفتأ تطاردها حتى تغلبها على مكانها، فما زال رأسه مسرحاً لسوانح الأفكار وميداناً لسوابق الأوهام حتى نزل به فكر فالقي فيه عصا التسيار وأقسم لا يبرح أرجاءه وكان مبعثه من تلك الأواني الفضية التي لمحها ذلك الشقي على مائدة العابد عند تناول العشاء، ولمح الخادم وهي تضعها في أحد الأركان من مخدع نومه على مقربة من سريره.
فسولت له نفسه أن يذهب بها وقد قومها بضعف ما كان يمتلكه يومئذ من المال وكلما حاول أن يثنى عنانه عن ركوب طريق العار أبي طمعه إلا أن يقف به على رأس ذلك الطريق فلبث ساعة وهو يحارب تلك العزيمة، ويكافح شيطان هذه النفس الخبيثة، حتى تغلب عليه الطمع وزين له الشيطان اختلاس تلك الأواني فثار من مرقده وهم بمزاولة ذلك العمل.
ثم عاوده التردد فجلس على سريره وهو من نفسه في حرب عوان ومد يده فتحسس متاعه والتمسه في الظلام فمسح عليه الحال في جوف تلك الحجرة تحت أستار ذلك الظلام رأى رجلاً خرج به فرط التأمل عن حد الشعور بما حوله وقرأ على وجهه سطوراً من الشؤم رسمتها عليه يد الشر الذي كان يجول في نفسه.
ولولا أن دقت ساعة الحائط فانتشلته من قرار تلك اللجة التي نزل إلى قاعها غواص الفكر، للبث كذلك حتى الصباح.
فثار من مكانه وخلع نعليه وكان لم يخلعها عند النوم والتمس عصاه واحتقب متاعه وتهيأ للعمل وأخذ سمعته إلى مخدع العابد وعلق أنفاسه وأخرس صوت أقدامه ومشى على أطراف أصابعه حتى إذا بلغ الباب تسمع فلم يسمع شيئاً فدفعه بطرف البنان وهو أشد ما يكون احتراساً كأنه هرة تحاول غشيان ذلك المكان، فلان له الباب ودار على عقبه بحركة لم يسر إلى السمع صوت لها.
فلبث غير بعيد ودفعه دفعة ثانية كان فيها أشد جرأة منه في الأولى فازداد ليناً حتى فتح له طريقاً يسع مروره لولا منضدة من الخشب كانت معرضة فيه، قد دعته إلى طلب الزيادة في انفراجه.
فألم جان فالجان بحرج الموقف ولم ير بدا من الأقدام فدفع الباب مرة ثالثة أشد من أختها وكان الباب على ظمأ إلى قطرات من الزيت، فصر لتلك الصدمة صريراً، دوى له في هذه الظلمة صوت جاف فاحتوته الرعدة وكادت تقف ضربات قلبه من الهلع ولبث كمن أخذته الصيحة وقد نفخ في الصور، ومثل له الفزع ذلك الباب وقد تحول إلى كلب عقور رابه سواد مقبل فجعل ينبح نبيحاً يكفي لإيقاظ أهل الكهف، فكيف بأهل ذلك البيت، وظن أنه لا محالة هالك، وخال عروقه وهي تنبض في صفحتيه مطارق تطرق الحديد وأن أنفاسه تصفر تصفير الرياح في بطون الكهوف والمغاور، وأن ذلك الباب قد زلزل الأرض زلزالها فزعزع أركان المنزل وأن هذا الصوت النكير قد أنذر الناس بالكبسة، فما هو إلا أن يتنبه العابد وهاتان المرآتان حتى يقع في قبضة العسس فيعيدوه إلى سيرته الأولى.
* جموح الشر وسكون التقى والجلال..
ولبث حيث كان لا يقدر على الحركة وهو كأنه بعض الأنصاب حتى سكت عنه الروع ورأى الأمر أيسر مما كان في نفسه فمد بصره داخل الحجرة، فإذا العابد يغط في نومه، وأصغى بأذنيه، فإذا الدار في سكون الرموس.
فخفض من جزعه ودعا إليه الأقدام وخطا خطوة فإذا هو داخل الحجرة فجعل ينقل أقدامه باحتراس كراهة أن يصطدم بشيء من الأثاث, وإنه ليختلس الخطى إذ برز القمر من وراء غمامة كانت تغشاه ورمى جرمه على تلك الحجرة فأنارها فنظر جان فالجان نفسه على قيد شبر من سرير ذلك النائم.
وكأن الطبيعة لم تزحزح هذا النقاب عن وجه القمر في تلك الفترة إلا لتوضح لعيون الكون عمل ذلك الجاني لعله يذكر أو يخشى، فلقد كان القمر منذ زمن لا يتعدى شطر الساعة مقنعاً بغمامة سوداء وقد انجلت عنه في اللحظة التي أوشك فيها أن يعثر هذا الشقي بأعواد السرير.
ومن رأى ذلك المضطجع على فراشه، رأى رجلاً قد قام على رأسه حارسان من المهابة والجلال يتألق في وجهه نور اليقين ويجول في محياه ماء البشر وترتسم على وجهه آيات الرضا والقبول، وتكتسي شفتاه بابتسامة الأمل الفسيح، ويتأرجح من أردأنه ريح التوكل.
وقد راع هذا الواقف جلال ذلك الموقف فجعل ينظر بعين الإكبار إلى ذلك الجسد الذي سكن فيه التقى، وتلك الروح التي باتت تسبح في عالم الأسرار وتسبح في ذلك الملكوت السماوي.
وكانت لله مشيئته في ذلك الراقد، فقد أفاض عليه من أنوار الهدى ومنحه من آيات المهابة والجلال ما جعله مهيباً في اليقظة والمنام، لذلك كان جان فالجان وهو مقيد في مكانه بقيد من الخشية ينظر إليه وقد تمشت العظة في نفسه وامتلأت عينه جمالاً وأفعم صدره جلالاً.
* سرقه مع السير في طريق الشقاء..
ولا يعلم إلا الله ما كان يمتزج بأجزاء نفسه من الانفعال وهو يدمن النظر إلى ذلك الراقد الذي تنتشر على وجهه طبقة من النور السماوي تمازجها نفثة من الروح الإلهي الذي أنار الله به بصيرته وأضاء سريرته فتلألأ في وجهه، والوجه مرآة الضمير.
وزادت بهجة البدر في بهجة ذلك النائم فكان يراه جان فالجان في نور فوق نور ولم يزل واقفاً في مكانه ولم يحول بصره عنه، وما شك من رآه في إنه يتردد بين أن يهوي بعصاه إلى تلك الجمجمة فيشجها أو يهوى بفمه إلى تلك اليد فيقبلها.
كل ذلك والعابد غارق في نوم لم تقطعه عليه تلك النظرات المريبة حتى حانت من جان فالجان التفاتة فرأى الصليب وهو باسط ذراعيه وكأنه يوميء إلى أحدهما بالوقاية وإلى الثاني بالمغفرة، فأغرته تلك اللفتة إلى الإسراع في العمل.
فاندفع يمشي إلى الأمام حتى وقف عند تلك الأواني الفضية وهي في سفطها فتناوله ورجع أدراجه ومر بجانب السرير بقدم مطمئنة وجأش رابط، حتى إذا جاوز الباب أنحدر إلى الحديقة فألقى بالسفط على الأرض بعد أن نقل إلى خرجه ما كان فيه وتسور الحائط ونجا بنفسه وخرج مع البازي عليه سواد.
ولما توفى الليل هب العابد من نومه وخرج يجول في حديقته وكانت تلك عادته عند كل صباح فلمح الخادم وهي تهرول إليه تنادي: أيعلم مولاي تولى الله حراسته أين سفط الأواني الفضية؟.
فأشار العابد إليه وكان مطروحاً على مقربة منه، وقال لها ليس هو هذا؟.. قالت: كأنه هو ولكن أين أوانيه؟. قال: ذا ما لست أدري. فصاحت الخادم: كان الذي خفت أن يكون فلقد فقدت تلك الأواني وأكبر ظني أن ذلك الرجل الذي غشينا بالأمس هو الذي ذهب بها.
ثم طفقت تجري إلى حجرة الرجل وعادت على الأثر وهي تقول: نعم ذهب بها فلا بورك له فيها، ولاحت منها التفاتة فرأت آثار أقدامه مطبوعة على أرض البستان، فجعلت تترسمها بالنظر حتى انتهت بها إلى إحدى زواياه فشاهدت آثار تسلقه على الحائط، فقالت: من هنا أخذ طريقه ومن هنا أظهر الحائط.
كرم العابد أم فرصة لسلوك طريق الخير..
وما زالت تبدى وتعيد وسيدها صامت اللسان وما زاد على أن قال: متى كنا نحن أصحاباً لتلك الأواني؟ ألم تكن هي من نصيب الفقراء وقد حبسناها عنهم؟ ولقد أصاب الرجل في فعلته فإن هو إلا بعضهم وقد وقف به نصيبه عليها فلا تجزعي فليس في الأمر ما يدعو إلى الجزع وهذه أواني القصدير أو صحاف الخزف تكفينا مؤنة الأسف على ضياعها.
ثم غادرها وانكفأ إلى حجرته وما كادت تحتويه حتى سمع طرقاً على الباب، فقال: أتيت أهلاً أيها الطارق فانفتح الباب وظهر على عتبة الدار ثلاثة من الرجال قد أخذوا بخناق رابع بينهم!.
فمد العابد بصره فإذا ثلاثتهم من الجند وإذا صاحبه بالأمس يكاد يذوب بينهم فرقاً.
فقال لصاحبه وقد هبت من شمائله روائح الكرم: لقد نسيت عند انصرافك عنا أن تقرن هذين الشمعدانين إلى تلك الأواني الفضية، وأنت تعلم أنك ربهما منذ الأمس. وما أنساك أن تذكرهما إلا شيطان العجلة. فخذهما فلعلك أن تصيب من ثمنها ما تصلح به من شأنك!.
ثم ألتفت إلى الجند، وقال لهم: لقد آذيتموني في ضيفي أنه خير مما تظنون.
والتفت بعدها إلى صاحبه، فقال له والبشر يجول في محياه: إذا شئت زيارتنا منذ اليوم، فلا تجعل طريقك على البستان فإن لك لمندوحة عن احتمال مشاق الصعود والهبوط، وهذا بابنا لا يغلق في وجه الطارق، وما هي إلا أن تدفع الباب حتى تكون في وسط الدار. ولما تم انصراف القوم، قال له: لقد جعلت لي عهد الله أن تنفق ما أخذت في رياضة نفسك على البر والتقوى فلا تنكث مع الله عهدك، فلبث الرجل مبهوتاً عند سماع ذكريات ذلك العهد الذي لم يأخذ على نفسه القيام به فقال له العابد: أعلم أنني اشتريت نفسك بعد أن سللتها من يد الهلاك ثم وهبتها لله فلا تكن عليها من المسرفين
وخرج الرجل من المدينة كمن يحاول الفرار، ومضى على وجهه تقاذف به الطرقات وتهادى به الحقول ولا يشعر لفرط ما نزل به أكان يقبل أو يدبر ولا يعلم إنه كان يضرب في قطعة من الأرض لا يتعداها
* * *
وهكذا قضى سراة يومه في أودية التيه والضلال ولم يشعر بألم الجوع وأن كان لم يذق طعاماً، فسار وهو يكاد ينشق غيظاً ولا يعلم إلا الله على أي شيء قد أمسك هذا الغيظ في نفسه ولعله سرى إليه من ندامته على ماضيه أو من خذلانه في حاضره. وكأنه كان يحس برقة قد أدركت فؤاده وأخذت تقرض من أطراف غلظته فتضعضع نفسه كلما شعر بانزعاج تلك الغلظة التي أسكنها في فؤاده ذلك الظلم الغابر وأيدها فيه هذا الجد العاثر. وجعل يتساءل في كل آن عما عساه أن يحل محلها ويؤثر العودة إلى السجون على البقاء على تلك الحال التي لا يعلم مأتاها.
كان على عطفي طريقه سياج تطل منها زهور قد أخطأتها أيدي الجناة فجعلت تهيج فيه ذكرى الصبا كلما تنسم منها ذلك الأرج الفياح الذي لم يكن له عهد به منذ ابتدأت أيام محنته.
وقد بلغت من نفسه تلك الذكرى ما لم يبلغه البؤس والشقاء وكذلك قضى يومه على غير استواء.
ولما كان الأصيل وقد رسمت الشمس على سطح الأرض ظلال الحصى كان جان فالجان مضطجعاً في جوف خضراء ليس فيها سواه وقد مر برأسها طريق معبد ينتهي بمدينة (ديني) تلك التي لاقي فيها صنوف الشقاء.
وإنه يفكر في أمره وفي تلك الأسمال التي كانت مثار النفور لكل من يراه إذ أحس بوقع أقدام، فاستوى جالساً فإذا هو يرى سواداً مقبلاً فتبينه فإذا هو غلام يعد من العمر اثنتي عشرة سنة وهو يحتقب جرة له ويحمل حيواناً صغيراً جعله وسيلة لرزقه، وقد شهد ما كان عليه من الأطمار البالية بعراقته في الفاقة، وهو يغني بصوت رخيم، ويلاعب الجو بقطع من الفضة كانت مبلغ ثروته في حياته.
فإنه ليلهو بقذفها في الجو والتقاطها إذ هوت كبراها إلى الأرض وأخذت تجري على رأسها إلى حيث كان جان فالجان مستتراً عن نظر ذلك الغلام خلف تلك العواسج.
فما هي إلا أن انتهت إليه حتى كان أسرع من السهم في ممره إلى وضع قدمه عليها ليحجبها عن نظر ربها الذي كان يحرص عليها حرص الموت على النفوس، ويترسم أثرها بنظر يكاد ينهبها وهي تجري على الأرض نهباً.
ولما علم بمقرها وثب إليه فإذا هو يرى عنده رجلاً، فلم يأخذه الروع ولم يعتره الدهش. وكان الطريق إذ ذاك خالياً من المارة ولا يسمع في هذا الجو الفسيح إلى قطقطة سرب من القطا يسبح في الجو على قيد مرمى السهم.
فوقف الغلام في وجه الرجل وقد ألقى الشرق في شعر رأسه سلوكاً ذهبية ونشر على سحنة ذلك الفاتك طبقة تعلوها حمرة النجيع، وقال له بصوت يمازجه ارتياح الغلمة وسكينة الأبرياء: أين قطتي؟ فمد الرجل بصره إليه وقال: من أنت؟ قال: أنا (فرجي) الصغير.
فانتهره الرجل ونكس رأسه وتصامم عن سماع كلامه وأخذ الأول يلحف في السؤال والثاني يبالغ في السكوت حتى ضاق الغلام ذرعاً وأهوى إلى ذلك الشيخ وأ
ماستر
ماستر
الكاتب المميز
الكاتب المميز

عدد المساهمات : 193
تاريخ التسجيل : 26/08/2010
العمر : 40
الموقع : حلب - سوريا

http://memo.201039@hotmail.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى