مرض ووفاة الرسول عليه الصلاة والسلام

[justify]
مرض النبي
لما انقضى موسمُ الحج، عادَ رسولُ اللهِ ‘ إلى المدينةِ المنورةِ حرسها الله تعإلى وزادها شرفاً وتعظيماً، فعقدَ بعثاً لأسامةَ بن زيد ثمَّ اشتكى رسولُ اللهِ من وجعهِ الذي توفي بعدهُ.


ظهور الكذابين
وما أن عرفَ مرضهُ ‘ برزَ الكذابين فوثبَ الأسود العنسي كذابُ اليمنِ، ومسيلمةُ بن حبيب كذابُ اليمامة، وطليحةُ بنت خويلد من بني أسدٍ في نجدٍ.
وقد أكثرَ المنافقون في تأميرِ رسولُ اللهِ ‘ أسامة بن زيد حتى بلغه، فخرجَ رسولُ اللهِ ‘ على الناسِ عاصباً رأسهُ من الصداعِ الذي دهمهُ، لرؤيا رآها في بيت عائشة رضي الله عنها، فقال: إني رأيتُ البارحةَ >أي فيما يرى النائم< أن في عضدي سوارين من ذهبٍ، فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين >صاحب اليمامة وصاحب اليمن< وقد بلغني أن أقواماً يقولونَ في إمارة أسامةِ، ولعمري لئن قالوا في إمارتهِ، لقد قالوا في إمارة أبيهِ من قبلهِ، وإن أبوهُ لخليقاً للإمارة وإنهُ لخليقٌ لها، فأنفذوا بعثَ أسامةَ وقال: لعنَ الله الذين يتخذون قبورَ أنبيائهمْ مساجداً.
وروى أبو مريهية مولى رسولُ اللهِ ‘ قالَ: بعثني رسولُ اللهِ ‘ منْ جوفِ الليلِ، فقالَ لي: يا أبا مويهية، إني قدْ أمرتُ أن أستغفرَ لأهل البقيعِ، فانطلقْ معي. فانطلقتُ معهُ، فلما وقفَ بين أظهرهم، قالَ: السلامُ عليكم أهلُ المقابرِ، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبحَ الناسُ فيهِ، أقبلتْ الفتنُ كقطعِ الليلِ المظلمِ، يتبع آخرها أولها، الآخرةُ شرٌ من الأولى، ثمَّ أقبلَ عليَّ فقال: يا أبا مويهية، إني قدْ أوتيتُ مفاتيح خزائنَ الدنيا والخلدُ فيها، ثمَّ الجنةُ،خيرتُ بين ذلكَ وبين لقاءِ ربي والجنةَ، فاخترتُ لقاءَ ربي والجنةَ، قالَ: قلتُ بأبي أنت وأمي فخذْ مفاتيحَ خزائنُ الدنيا والخلدُ فيها، ثمَّ الجنةَ. فقالَ: لا والله يا أبا مويهية، لقد اخترتُ لقاءَ ربي والجنةَ، ثمَّ استغفرَ لأهل البقيع، ثمَّ انصرفَ إلى بيت عائشة.
وروي عن عائشةَ رضي الله عنها، قالتْ: رجعَ رسولُ اللهِ ‘ من البقيع، فوجدني وأنا أجدُ صداعاً في رأسي، وأنا أقول: وارأساهُ، ثمَّ قالَ بل أنا والله يا عائشةُ وارأساهُ.
وطافَ رسولُ اللهِ ‘ على نسائهِ حتى غلبهُ الوجع وهو في بيت ميمونةَ رضي الله عنها واستأذنَ نساءهُ جميعاً أن يمرضَ في بيتِ عائشةَ ابنةَ أبي بكر ~ فأذنَ لهُ، فجاءَ إلى بيتِ عائشة متحاملاً على نفسه متكئاً على رجلينِ هما، عليٌ بن أبي طالب والفضلُ بن العباس ~، عاصباً رأسهُ. ثمَّ اشتدَ برسولِ الله ‘ الوجعَ فقالَ: أهريقوا عليَّ من سبعِ قرابٍ من آبار شتى، حتى أخرجَ إلى الناس فأعهدَ إليهمْ. قالتْ السيدةُ عائشة رضي الله عنها: فأقعدناهُ في مخضب أي إناء يغتسلُ بهُ، لحفصة بنت عمر ~ عنها، ثمَّ صبننا عليهِ الماء حتى طفقَ يقولُ: حسبكمْ، حسبكم. >يكفي<
وروى عن عبدُ الله بن سمعود ~ قالَ: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسهُ قبل موتهِ بشهرٍ، فلما دنا الفراق جمعنا في بيتِ أمنا عائشة، فنظرَ إلينا وشددَ فدمعتْ عينيهُ، وقالَ: مرحباً بكم رحمةَ الله، آواكمُ الله، حفظكمُ الله، رفعكمُ الله، وفقكمُ الله، نصركمُ الله، سلمكمُ الله، رحمكمُ الله، قبلكمُ الله، أوصيكمُ بتقوى الله، وأوصي الله بكمْ، واستخلفهُ عليكم، وأؤدِ لكم إليهِ، إني لكم نذيرٌ وبشيرٌ، لا تعلوا على الله في عبادهِ وبلادهِ، فإنهُ قالَ لي ولكم.

بسم الله الرحمن الرحيم
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} القصص83.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} الزمر60.
فقلنا: متى أجلكَ؟ قالَ: قدْ دنا الفراقُ، والمنقلبِ إلى الله وإلى سدرةِ المنتهى، قلنا: فمن يغسلك يا نبي الله؟ قالَ: أهلي الأدنى فالأدنى، قلنا: ففيم نكفنكَ يا نبيُ الله؟ قالَ: في ثيابي هذه إن شئتمْ أو في بياضِ مصر، أو في حلةٌ يمانية. قلنا: فمن يصلي عليكَ يا نبي الله؟ قالَ: مهلاً غفرَ الله لكم، وجزاكمْ عن نبيكم خيراً، فبكينا وبكى النبي ‘ وقال: إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفيرِ قبري، ثمَّ أخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي علي جليسي وخليلي جبريلُ عليهِ السلامَ ثمَّ ميكائيلَ، ثمَّ إسرافيلَ، ثمَّ ملكُ الموتِ معَ جنودٍ كثرَ من الملائكةِ بأجمعها، ثمَّ أدخلوا علىَّ فوجاً فوجاً، فصلوا عليَّ وسلموا تسليماً، ولا تؤذوني بتزكيةٍ، ولا برنةٍ ولا صيحةٍ، وليبدأُ بالصلاةِ عليَّ رجالُ أهل بيتي ثمَّ نساؤهمْ، ثمَّ أنتم بعد، أقرئوا أنفسكمْ مني السلام، فإني أشهدكمْ أني قدْ سلمتُ على من بايعني على ديني من اليومِ إلى يومِ القيامةِ، فلنا فمن يدخلكَ في قبرك يا نبيُ الله؟ قالَ: أهلي معَ ملائكةٌ كثيرينَ يرونكمْ من حيثُ لا ترونهم.
وعن عبدُ الله بن أبي مليكة قالَ: لما كانَ يومُ الاثنين خرجَ رسولُ اللهِ ‘ عاصباً رأسهُ إلى الصبح، وأبو بكرٍ يصلي بالناسِ، فلما خرجَ رسولُ اللهِ ‘ تفرجَ الناسُ،فعرفَ أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسولِ الله ‘ فنكصَ على مصلاهُ فدفعَ رسولُ اللهِ ‘ في ظهرهِ وقالَ: صلِّ بالناس، وجلسَ رسولُ اللهِ ‘ إلى جنبهِ، فصلى قاعداً عن يمينِ أبي بكرٍ، فلما فرغَ من الصلاةِ أقبلَ على الناسِ، فكلمهم رافعاً صوتهُ، حتى خرجَ صوتهُ من بابِ المسجدِ، يقولُ: أيها الناسُ، سُعرتْ النارُ وأقبلتْ الفتنُ كقطع الليلِ المظلمِ، وإني والله ما تمسكونَ عليَّ بشيءٍ، إني لم أحلَّ إلا ما أحلَ القرآن، ولم أحرمُ إلا ما حرمَ القرآن.
قالَ: فلما فرغَ رسولُ اللهِ ‘ من كلامهَ قالَ لهُ أبو بكر يا نبيُ الله إني أراكَ قدْ أصبحتَ بنعمةٍ من الله وفضلٍ كما نحبُ، واليومُ يوم بنت خارجة أفآتيها؟ قالَ: نعمْ ، ثمَّ دخلَ رسولُ اللهِ ‘ وخرج أبو بكر إلى أهلهِ بالسفحِ.

وفاة رسولُ اللهِ ‘
وروى عروة عن عائشة قالَ: قالتْ: رجعَ إليَّ رسولُ اللهِ ‘ في ذلك اليوم، حين دخلَ من المسجدِ، فاضطجعَ في حجري، فدخلَ عليَّ رجلٌ من آل أبي بكر، أخوها عبد الرحمن، وفي يدهُ سواكٌ أخضر، قالتْ: فنظرَ رسولُ اللهِ ‘ في يدهِ نظراً عرفت أنهُ يريدهُ.
قالتْ: فقلتُ: يا رسولُ الله، أتحبُ أن أعطيكَ هذا السواكَ؟ قالَ: نعمْ ، قالتْ: فأخذتهُ فمضغتهُ لهُ حتى لينتهُ، ثمَّ أعطيتهُ إياهُ، قالتْ: فاستنَّ بهِ كأشدِ ما رأيتهُ يستن بسواكٍ قط. ثمَّ وضعهُ، ووجدتُ رسولُ اللهِ ‘ يثقلُ في حجري، فذهبتُ أنظرُ في وجههِ، فإذا بصرهُ قدْ شخصَ، وهو يقولُ: بلْ الرفيقُ الأعلى من الجنةِ. قالتْ: فقلتُ: خيرتَ فاخترتَ والذي بعثكَ بالحقِ. قالتْ: وقبضَ رسولُ اللهِ ‘ تغمدهُ الله بواسعِ رحمتهِ، وأسكنهُ الفردوس الأعلى من جنتهِ، وحشرنا تحت لوائهِ معَ صالحي أمته، وتجاوز عنا بفضل شفاعته.
وروى يحيى بن عباد عن أبيه عباد، قالَ: سمعتُ عائشةَ تقولُ: ماتَ رسولُ اللهِ ‘ بين سحري ونحري، وفي دوري ولم أظلم فيهِ أحداً، فمن سفهي وحداثة سني أن رسولُ اللهِ ‘ قبض وهو في حجري ثمَّ وضعتُ رأسهُ على وسادةٍ، وقمتُ أضربُ صدري معَ النساء، وأضربُ وجهي.
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قالَ: لما توفي رسولُ اللهِ ‘ قامَ عمرُ بن الخطاب، فقالَ: إن رجالاً من المنافقين يزعمونَ أن رسولُ اللهِ ‘ توفي، وإن رسولُ اللهِ والله ما مات، ولكنهُ ذهب إلى ربه كما ذهبَ موسى بنُ عمران، فغابَ عن قومهِ أربعينَ ليلة ثمَّ رجع بعدَ أن قيلَ قدْ ماتَ، والله ليرجعنَّ رسولُ اللهِ ‘ فليقطعنَ أيدي رجال وأرجلهمْ يزعمونَ أن رسولُ اللهِ ماتَ؟
قالَ: وأقبلَ أبو بكرٍ حتى نزلَ على بابِ المسجد حين بلغهُ الخبرُ، وعمرٌ يكلمُ الناسَ فلم يلتفتْ إلى شيءٍ حتى دخلَ على رسولُ اللهِ ‘ وهو مسجى >مغطى< في ناحيةِ البيتِ عليهِ برد حبرة أي نوعٌ من ثيابِ اليمنِ، فأقبلَ حتى كشفَ عن وجههِ، ثمَّ أقبلَ عليهِ فقبلهُ، ثمَّ قالَ: بأبي أنت وأمي، أما الموتةَ التي كتبَ الله عليكَ فقدْ ذقتها ثمَّ لنْ يصيبكَ بعدها موتةٌ أبداً. ثمَّ ردَّ الثوب على وجههِ، ثمَّ خرجَ وعمرٌ يكلمُ الناسَ فقالَ: على رسلكَ يا عمرُ، فانصتْ، فأبى إلا أن يتكلمُ، فلما رآهُ أبو بكر لا ينصتُ أقبلَ على الناسِ، فلما سمعَ الناس كلامهُ أقبلوا عليهِ، وتركوا عمرُ، فحمدَ الله وأثنى عليهِ ثمَّ قالَ: أيها الناسُ، إنهُ من كانَ يعبد محمداً فإن محمداً قدْ مات، ومن كانَ يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموتُ، ثمَّ تلا هذه الآية:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} آل عمران144.
قالَ: فوالله لكأن الناسَ لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسولُ اللهِ ‘ حتى تلاها أبو بكر يومئذٍ، قالَ: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم، قالَ: فقالَ ابو هريرة: قالَ عمرُ: والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر يتلوها فعقرتُ أي دهشتُ حتى وقعتُ إلى الأرض، ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسولُ اللهِ ‘ قدْ ماتَ.
وبويعَ أبو بكر يوم ماتَ رسولُ اللهِ كراهة أن يبقوا بعضِ يومٍ وليسوا في جماعة.

غسل النبي
روى عن عائشة قالت: لما أرادوا أن يغسلوا النبي ‘، اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسولُ اللهِ ‘ من ثيابه كما نجرد موتانا؟ أو نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقي عليهم السنة >أي النوم<، حتى ما منهم رجلٌ إلا وذقنهُ في صدره، ثمَّ كلمهم فتكلم من ناحية البيت لا يدرى من هو: أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه، قالت: فقاموا إلى رسولُ اللهِ ‘ فغسلوه وعليه قميص يصبون عليهِ الماء فوق القميص، ويدلكونهُ والقميص دون أيديهم، وكان علي يغسله وقد أسند إلى صدره ويدلكه من وراء قميصه، لا يفضي بيده إلى رسولُ اللهِ ‘ ويقولُ بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حياً وميتاً، ولم يرَ على رسولُ اللهِ ‘ شيءٌ مما يرى من الميتِ.

حضر الغسل
وحضرَ الغسلَ عليٌّ والعباس وابناهُ الفضلَ وقثمَ وأسامةَ بنُ زيدٍ ومولاهُ شقران، وأوس بن خولي الخزرجي، ثمَّ حفرَ لهُ تحت سريره ِفي بيتهِ، وكفنَ بثلاثةِ أثوابٍ يمانيةٍ أدرجَ فيها إدارجاً.
الصلاة على النبي ‘
وصلى عليهِ الرجال ثمَّ النساءُ ثمَّ الصبيان ثمَّ العبيدُ دون أن يؤمَ الناسَ أحدٌ.
نزول حفرة النبي ‘
نزلَ حفرتهُ ‘ عليٌّ والفضلُ وقثم ابنا العباس وشقران مولاهُ وأوس بن خولي.
دفنهُ ‘
دفنَ وسطَ الليل ليلةِ الأربعاءِ.

عمر النبي ‘
وكان عمرُ النبي ‘ يوم قبضَ ثلاثاً وستين سنةٍ على الأرجحِ.
آخر عهدٍ لرسولِ الله ‘
وقالتْ عائشة: كانَ آخرُ عهدٍ لرسولِ الله ‘ أنهُ قالَ: لا يتركُ بجزيرةِ العربِ دينانِ.
ويوم وفاتهِ ‘ استكملَ في هجرتهِ عشرِ سنين كواملِ.
* * *